رجل عاش في الخلف عيشة السلف، عبقري جدّد ذكريات أهل القرون الأولى، ألمعي غاص في بحر العلوم فاختزن أنفس ما في طياته، مجاهد جاهد بالنفس والمال لنشر كلمة الحق، مؤرخ اكتنز نفائس التاريخ وعرف قدرها، معلّم جلس مع الطلاب فأحبوه، مفسر عايش القرآن فأدركه، متفقه علم الحكمة فأنذر قومه، مجتهد اجتهد في الفكر والأدب فأثمرا.
إنه الشيخ الإمام الرباني الداعية الحكيم المفكر الإسلامي الأديب الأريب اللبيب السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمة الله عليه، حياته مليئة بالعبر والنصائح و أعماله وخدماته لا تزال تشرق في المغرب والمشرق، إنه فهم معنى الإسلام وطبّقه، أدرك كنه الدين وفسّره، علم معنى الجهاد والاجتهاد فعملهما، كان رائد القوم وقائد الأمة لم يبخس في نصح قومه ولم يسأل على العمل أجرا.
إذا تصفحت صفحات حياته لترى العجائب والغرائب من الخصال التي قلما تجتمع في شخص واحد، لو بدأت أتعرض لكل واحدة منها لطال المقال وتبعثر الكلام، ولكني في هذه العجالة أريد أن أبرز بعض خصاله التي كانت من ملامح شخصيته ومكملات سيرته ومميزات حياته.
١. اعتدال فكره ووسطية منهجه وشمول تمثيله للدعوة الإسلامية وعظيم جهاده في ترشيد الصحوة الإيمانية.
إذا نظرنا إلى عصر الشيخ و تفحصنا الاتجاهات الفكرية فيه و حلّلنا الأفكار الدينية السائدة فيه لوجدنا انحلال الميزان في المناهج و ضعف الوعي بالواقع و الحيد عن تمثيل الإسلام فكرا ودعوة وعملا بالسلامة من مؤثرات بيئية طافية، إن دلّ هذا العصر على شيئ فإنما يدل على قلة التسامح بين فئات المجتمع المسلم والتصلب بالمواقف التراثية فيما تجوز المرونة فيها من نظام التعليم ومنهج الإصلاح والتربية، وطرق الدعوة والتبليغ، ترى الإمام الندوي في الصحراء جبلا شامخا وفي البيداء علما متعاليا سلوكا مع الجماعات المختلفة ومساندة للحركات المتنوعة وشمولا في نشاطات للمراكز التربوية والتعليمية المختلفة، تراه صوفيا سليما من الخرافات وبعيدا عن التحزبات في طرائق التزكية من غير نيل من هذا الشأن بل مساهمة بقدر معتدل، وداعية ومبلغا حكيما لأصل الدين لا ممثلا للحزب والجماعة بل مشاركا مع كل فكرة تخدم الدين، ومرشدا عالميا ينجذب إليه المفكرون والمتصوفون، ومؤمنا بنظرية ’الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع‘ بل نموذجا حيا لها، ومربيا أنشئ الجيل الكثير المتمثل لفكره، ومفكرا يعرف الثوابت والمتغيرات في الشريعة ويدري مقاصدها فلا يتحجر على ما يقبل التلون ولا يتنكر لما يبيح التنوع، وقائدا لا يلوي جنبه عن التشابك مع عامة القوم ولا يحسب السياسة الشجرة الممنوعة بل يعتقد بإرشاد الأمة في السياسة العملية، ولا أطريه إذ أقول: إنه ندوة العلماء في فرده، لقد حقق ما تأملته حركة ندوة العلماء في ميدان عمله وحقل دعوته.
٢. حرقته ولوعته لقضايا المسلمين ومشاكل الإنسانية.
سواء كانت قضية عالمية أم قضية وطنية محلية تهمه كل هم وتأخذ انتباهه كل مأخذ، وتغشى خاطره و باله غشيان السحاب على الأرض، كان مهتما بشؤون العالم البشري عموما وقضايا العالم العربي خصوصا، يصح إذ أقول: إنه في الهند يتفكر عن أسلمة العالم العربي أكثر من العرب أنفسهم، لم يأل جهدا ولم يقصر حقا في إعلاء كلمة الحق للعرب بكتاباته ومحاضراته ولقاءاته وجولاته، والشيئ الذي يميز دعوته استغناءه عن الخلق والنصح بكل أمانة وفتح قفل القلوب بالحكمة البليغة والموعظة الحسنة والتحريض لا التنفير والتيسير لا التعسير والإكرام لا الإذلال، إذا تكلم فالقلب ينطق، وإذا كتب سيطر على العقول والأفئدة.
كان صاحب فراسة إيمانية وإلهام رباني لصفاء قلبه ونور بصيرته يدرك النتائج الصحيحة بالوقائع الغامضة لأنه ملمّ مباشر بقضايا الأمة عن كثب وعن كتب، كم من مواقف حاسمة صارمة له في قضايا العرب وقضايا مسلمي الهند حيث أثبت صحتها الأيام المقبلة، فقضية فلسطين من أمهات قضايا المسلمين والعرب في نظره ولم يرض بالتخاذل والتفاوض الدنيئ قط ويخشى ذلك من رؤساء العرب، وقضية التثقيف السليم من روح الحضارة الغربية وشمل العلوم الطبيعية العصرية في موكب الإسلام بالرعاية السلطانية من أهم دعوته وجهاده في الدول العربية، وتطهير الشعب العربي من دعايات القومية والوطنية وجمعه على رصيف الإسلام وتوحيد كلمته على دين الحق من أبرز ملامح إسهاماته في ترشيد الصحوة الإسلامية.
هذا، وقد اجتمع فيه أوصاف نبيلة وشيم كريمة وسجايا شريفة ما يمتاز بها في سيرته وسلوكه، وتنوعت إسهاماته في مجالات علمية وثقافية وفكرية ودعوية وتعليمية، فهو أمة في شخص و رجل من رجالات الزمان.
لا تزال إشراقات فكره تنير الدرب للسالكين وترشد المثقفين نحو مصير رشيد، وينبغي إحياء مآثره الفكرية بتثقيف الجيل الحديث على منهجه الوسط وفكره المعتدل، وتلك خدمة نافعة وعمل مبارك في حق الإمام وحق المسلمين.
شعيب الحسيني الندوي